آخر الأخبارمحلية

إشهار مشروع “الرملة العاصمة المنسية”: توثيق شامل لتاريخ المدينة ومقدساتها الإسلامية

يشكّل مشروع “الرملة العاصمة المنسيّة” نقلة نوعيّة في توثيق الوجود الإسلامي في مدينة قامت من الرمال لتتحوّل إلى عاصمة لجند فلسطين وأحد أهم مراكز الحضارة الإسلامية في بلاد الشام، ويأتي هذه المرّة في قالب متكامل يجمع بين الكتاب العلمي والموقع الإلكتروني والفيلم الوثائقي والمعارض الهندسية، ليقدّم الرملة كمدينة حيّة بتاريخها لا مجرد موضوع لبحث أكاديمي جاف.

مشهد الاحتفال: حين يتكلم الحجر والتاريخ

احتضن المسجد العمري الكبير في الرملة حفل إشهار المشروع، في دلالة رمزية على استمرار دور المساجد التاريخية كمنابر للعلم والهوية، حيث امتلأ المكان بجمهور واسع من أهالي الرملة والبلدات المجاورة، إلى جانب شخصيات علمية ودينية واجتماعية.

تكاملت في الأمسية ثلاثة محاور رئيسة: إشهار كتاب “الرملة العاصمة المنسيّة: مسح ودراسة المقدسات والآثار الإسلامية في مدينة الرملة (715–1917م)”، تدشين موقع إلكتروني تفاعلي للتعريف بمقدسات المدينة، وعرض فيلم وثائقي يحكي قصة الرملة بلغة بصرية حديثة تستند إلى المعطيات الأثرية والتاريخية.

أُقيم المشروع بإشراف لجنة أمناء الوقف الإسلامي في الرملة، ونفذه مركز عتيق للآثار والتراث بإدارة الباحث الدكتور عبد الرازق متاني.

دور لجنة الأمناء: من رعاية المقدسات إلى إنتاج المعرفة

وفي كلمته خلال الحفل، أكّد الأستاذ عدنان جاروشي (أبو ياسر)، رئيس لجنة أمناء الوقف الإسلامي، أنّ المشروع يشكّل نقلة نوعية في توثيق مقدسات الرملة بما يتناسب مع مكانتها التاريخية والمعمارية، مبيّنًا أن اللجنة وضعت منذ سنوات رؤية شاملة لخدمة الاوقاف الإسلامية في المدينة حفظًا لتراثها الغني الزاخر، تقوم على الجمع بين صيانة الحجر وصون الذاكرة. وأوضح أن هذه الرؤية لا تقف عند حدود الترميم الفيزيائي، بل تتعدّاه إلى التوثيق المنهجي، وإطلاق المبادرات البحثية التي توثق تاريخ المدينة ومعالمها.

وأشار جاروشي إلى أن لجنة الأمناء أشرفت في السنوات الأخيرة  على العديد من المشاريع النوعية الهامة منها ترميم مسجد الفضل بن عباس رضي الله عنه وإعادته للصلاة بعد سنوات من الإغلاق، إلى جانب العناية المستمرة بالمسجد العمري الكبير، بوصفه قلب المدينة النابض ومسجد أبو العون الغزي ومعالم أخرى في المدينة وخارجها كمسجد سيدنا علي (علي ابن عليل) الذي تشرف عليه لجنة الامناء.

كما لفت إلى الجهود المتواصلة في صيانة مقابر المدينة التاريخية وتنظيمها ورعاية أوقافها، بوصفها جزءًا من كرامة الناس وامتدادًا لحرمة المساجد ذاتها، بحيث تتكامل رعاية الأحياء مع صون ذكرى الأجداد.

وتوقّف في كلمته عند أهمية هذا المشروع العظيم، مؤكدًا أنه لا يوثّق معالم متفرقة فحسب، بل يقدّم رؤية متكاملة تبيّن قيمة الرملة التاريخية والحضارية، وتبرز ما تزخر به من مساجد، ومقامات، ومآذن، ومقابر، ومعالم معمارية فريدة تجعل منها نموذجًا لمدينة مميزة. وشدّد على أن لجنة الأمناء تنظر إلى هذا العمل بوصفه خطوة استراتيجية ضمن مساعيها الدائمة والمستمرة للعناية بهذا الإرث العظيم، وتوفير قاعدة علمية راسخة يمكن الانطلاق منها لوضع خطط تطوير وحفظ أكثر مهنية، ولتكون الرملة – بمقدساتها وعمارتها – حاضرة في وعي أهلها والباحثين والزوّار على حدّ سواء.

كتاب يؤسّس لسردية علمية جديدة عن الرملة

يقوم الكتاب على دراسة شاملة للمقدسات والآثار الإسلامية في الرملة منذ نشأتها الأموية في مطلع القرن الثامن الميلادي حتى نهاية العهد العثماني، معتمدًا منهجية التكاملية والشمولية تمزج بين التحليل الأثري، والقراءة التاريخية، والمسح المعماري، وتوظيف السجلات الوقفية والوثائق الأصلية.

يقدّم العمل قراءة نقدية للأدبيات السابقة، خاصة المسوحات الغربية مثل سجلات الانتداب البريطاني (PAM – Ramleh) والمسح المعماري لمباني العصور الوسطى والعثمانية (MOS) الذي رعاه مجلس البحث البريطاني في بلاد الشام (CBRL)، مستفيدًا من نشر البروفيسور أندرو بترسون لنتائج أبحاثه حول الرملة، ليحوّل هذه المواد من مراجع خارجية  إلى قاعدة بيانات حية تحكي قصة المدينة.

منهجية متعددة التخصصات: من النقش إلى السحابة الرقمية

يختار الدكتور عبد الرازق متاني أن ينظر إلى الرملة كـمختبر حي لتاريخ العمارة الإسلامية في جند فلسطين، فيجمع بين المسح الميداني للمعالم، وتحليل النقوش، وقراءة السجلات الوقفية، وربطها بنتائج الحفريات الأثرية المتفرّقة التي أُجريت في المدينة خلال العقود الماضية.

يتفرّد المشروع بتوظيف تقنية المسح الليزري السحابي ثلاثي الأبعاد لعدد من المعالم الرئيسة مثل المسجد العمري الكبير، مسجد الفضل بن عباس، مسجد أبو العون ومعالم اخرى، ما يتيح قراءة دقيقة للطبقات المعمارية وتتبّع مراحل البناء والترميم، ويمهّد لإنتاج نماذج رقمية تحفظ صورة هذه المعالم في مواجهة التغييرات العمرانية المتسارعة.

الرملة في قلب السجال الأثري والتاريخي

يقدّم المشروع الرملة بوصفها مدينة إسلامية النشأة، لا امتدادًا متأخرًا لعمران بيزنطي، مستندًا إلى شواهد معمارية وأثرية تشير إلى أن الرملة مثّلت مرحلة حضارية جديدة في تاريخ المنطقة، وهو ما ينسجم مع اتجاه متزايد في الدراسات الأثرية التي تعيد قراءة تاريخ المدن الإسلامية بعيدًا عن الروايات والقراءات الاستشراقية التقليدية.

تكشف الدراسة عن دور الرملة في إعادة تعريف خريطة الازدهار الحضاري في بلاد الشام، إذ تصبح آثارها ومعالمها مقياسًا تُقارن به مكتشفات مواقع أخرى، بما يسهم في تصحيح نسب كثير من اللقى والبنايات التي جرى إلصاقها تعسفًا بالفترات البيزنطية أو غير الإسلامية.

بين الزلازل والحروب: مدينة تنهض من الركام

يربط المشروع بين سجلات الكوارث الطبيعية والحروب وبين التحولات العمرانية في الرملة، مستعرضًا أثر الزلازل المدمرة في القرن الحادي عشر الميلادي (1033م و1068م) التي قضت على أجزاء واسعة من المدينة وأسهمت في تغيير بنيتها السكانية والعمرانية.

لكن الرواية التي ينسجها الباحث لا تقف عند مشهد الدمار؛ بل تبرز قدرة الرملة على النهوض المتكرر عبر مشاريع إعمار مملوكية وعثمانية شملت إعادة بناء المساجد، وترميم البنية التحتية، وتوسيع شبكة الأوقاف، بما يجعل المدينة مثالًا على استمرارية حضارية تقاوم الانقطاع والنسيان.

صوت الباحث: من شغف شخصي إلى مشروع حضاري

في تقديمه للكتاب، يروي الدكتور متاني حكايته الطويلة مع الرملة، منذ زيارة مدرسية عابرة إلى برجها الشهير، وصولًا إلى تخصيص مساحات واسعة لها في أطروحته للدكتوراه حول عمارة المساجد في جند الأردن وفلسطين، لتتحوّل المدينة من موضوع دراسة إلى شريك في تشكيل المسار العلمي والإنساني للباحث.

يصف الباحث لقاءه بالأستاذ عدنان جاروشي بوصفه نقطة تحوّل، نقلت الرغبة الفردية في المعرفة إلى مشروع مؤسسي تتبنّاه لجنة الأمناء، ويُنفّذه مركز عتيق، ويستند إلى شبكة من الباحثين والمهندسين والخبراء المحليين والدوليين، ما يعكس نموذجًا نادرًا للشراكة بين المجتمع الأهلي والبحث العلمي المتخصص.

 

الواجهة الرقمية: حين تصبح المدينة موقعًا تفاعليًا

لا يتوقف مشروع “الرملة العاصمة المنسيّة” عند حدود الورق، بل يفتح أفقًا رقميًا واسعًا عبر موقع إلكتروني في طور التوسّع، يضم خرائط تفاعلية، وصورًا توثيقية للمساجد والمقامات والمقابر، ومواد تعريفية موجهة للباحثين والزائرين وسكان المدينة على حد سواء.

كما ويشكّل الفيلم الوثائقي المرافق للمشروع حلقة وصل بين الأرشيف والذاكرة البصرية المعاصرة، إذ يوظّف لقطات من المعالم، ومواد أرشيفية، وسردًا علميًا مبسطًا، ليقدّم الرملة في صورة جاذبة للأجيال الشابة والجمهور العالمي، مع خطط مستقبلية لترجمة المحتوى إلى لغات عدّة.

بين المحلية والعالمية: شراكات ومعرفة عابرة للحدود

يكرّس الباحث في قسم الشكر والعرفان حيّزًا مهمًا للإشادة بدور مجلس البحث البريطاني في بلاد الشام (CBRL) والبروفيسور أندرو بترسون، في إرساء قاعدة بيانات ميدانية شكلت أرضية صلبة انبنى عليها هذا المشروع، بما يعكس تراكمًا معرفيًا لا يقطع مع الجهود السابقة بل يطوّرها ويعيد قراءتها من منظور محلي واعٍ.

في المقابل، يمنح المشروع مساحة تقدير لطاقم المهندسين والمعماريين والفريق البحثي في مركز عتيق، ما يبرز أن دراسة مدينة كالرملة لم تعد مجهود فرد واحد، بل عملًا جماعيًا متعدّد التخصصات يجمع بين الأثري، والمؤرخ، والمهندس، وخبير التقنيات الرقمية، ومتولي الوقف، في شبكة عمل واحدة.

تعقيب الباحث: مشروع يتجاوز المدينة

يوضح الدكتور عبد الرازق متاني في تعقيبه أن مشروع “الرملة العاصمة المنسية” “ليس مجرد إشهار كتاب، بل محاولة جادّة لتأسيس نموذج بحثي متكامل لدراسة المدينة، يجمع بين الدراسة العلمية الرصينة، والتوثيق الميداني المتقدّم، والمنصات الرقمية المفتوحة للجمهور”.

ويضيف أن الرملة، بما تختزنه من شواهد معمارية وأوقاف ومساجد ومقابر، تمنح الباحثين فرصة نادرة لإعادة قراءة تاريخ البلاد من منظور التراث المادي الإسلامي، بعيدًا عن القراءات الإقصائية، وأن المشروع يطمح لأن يكون “لبنة في بناء سردية علمية متماسكة تعيد للرملة مكانتها كعاصمة حضارية لا كمدينة منسية في الهوامش”.

واختُتم الحفل بدعوة المشاركين إلى زيارة الموقع الإلكتروني الجديد للمشروع الذي يفتح نافذة معرفية تفاعلية تتيح للزوار والمهتمين اكتشاف تاريخ ومعالم المدينة العريقة عبر صور وخرائط ونماذج رقمية متقدمة.

كما وأشار القائمون على المشروع الى انه ستكون هناك سلسلة من احتفالات الاشهار للمشروع في بلدان عديدة داعين الجماهير الى المشاركة واستكشاف اسرار الرملة كإحدى اهم المدن التاريخية والمعالم الحضارية في البلاد.

 

من المهم التنويه أن موقع رِواق يحترم حقوق النشر ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المنشورات او الصور ومقاطع الفيديو أو غيره مما يصل الينا، وفي حال أنكم وجدتم أن لكم صورة او فيديو او منشورا تمتلكون حقوقا فيه، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة أو rwaqmedia@gmail.com حسب قانون 27 أ(סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים)

بصائر الخير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *