الطفل قارئ اليوم… هو قائد الغد

في مطلع عام دراسي جديد، تحلّ ذكرى المولد النبوي الشريف، حاملةً معها دلالة عميقة على العلاقة الوثيقة بين الإيمان والهداية والعلم. وفي هذه المناسبة المباركة، نستحضر قول الله تعالى:
“اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ”،
“قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ”،
“فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا”.
تتكرّر كلمة “نور“ في هذه الآيات لتُجسّد معاني الهداية، والقرآن، والرسالة المحمدية التي أخرجت البشرية من الظلمات إلى النور، ومن التيه إلى طريق الاستقامة. نورٌ لا يُقارن بأي اختراع بشري، فكما بدّد المصباح الكهربائي ظلمة المكان، فإن كلمة “اقرأ“، التي نزل بها جبريل على النبي محمد ﷺ في غار حراء، أطلقت نورًا داخليًا لا يُطفأ: نور العقل، والروح، والفكر، والوعي. النور هو ما يميز بين الهدى والضلال، بين الخطأ والصواب، وبين الحلال والحرام. فكيف لمن دخل النور إلى قلبه أن ينحرف، أو يمارس العنف، أو يقترف الرذيلة؟
إن “اقرأ“ لم تكن مجرد فعل أمر، بل كانت إعلانًا لبداية حضارة جديدة، قوامها المعرفة، وغايتها تحرير الإنسان من الجهل والتبعية. وقد وردت في قوله تعالى: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ“ لتؤكد أن المعرفة الحقة تبدأ من ارتباطها بالخالق، وأن العلم المستنير لا بد أن يكون مُعززًا بالقيم ومُوجّهًا نحو الخير. وفي ظل ما نعيشه اليوم من أزمات وتحديات—كالعنف، والاغتراب، والظلم، والتضليل—تُعيدنا ذكرى المولد النبوي الشريف إلى الجذور: إلى النور الذي بزغ من الغار، وإلى الكلمة التي غيّرت مجرى التاريخ.
ومع انطلاق العام الدراسي، تبرز الحاجة الملحّة لإعادة الروح إلى “اقرأ“، وجعلها مركز العملية التربوية، لا مجرد شعار. نُقدّر ما يُبذل من جهود في ميادين التعليم، ولكننا نؤمن أن التغيير الحقيقي يبدأ حينما تستعيد القراءة الورقية مكانتها، خاصة في مرحلة الطفولة المبكرة والمرحلة الابتدائية. لا بوصفها مهارة تقنية أو إجراءً آليًا، بل كممارسة ثقافية تُغذّي العقل، وتُنمي الخيال، وتهذّب النفس، وتُربّي على القيم.
القراءة الورقية ليست ترفًا، بل ضرورة تربوية وثقافية. فهي الوسيط الذي ينقل المعرفة من الكتب إلى داخل الإنسان، فتحوّلها إلى نورٍ يستضيء به. فإذا كانت القراءة الرقمية هي الضوء الذي يُبهر العيون، فإن القراءة الورقية النوعية هي النور الذي يُنير القلوب. والفرق بين الضوء والنور جوهري: فالضوء ماديّ، عابر، وسريع الزوال، أما النور فرُوحي، داخلي، عميق، ودائم الأثر. فالضوء بلا نور كالجسد بلا روح. وكما يعكس القمر ضوء الشمس فينير الليل، فإن القراءة الورقية تعكس مضامين الكتب، فتنير العقول. وقد أشار القرآن إلى هذا المعنى في قوله تعالى: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا“.
ورغم أننا لا نُنكر ما تحمله القراءة الرقمية من مزايا، فإنها تشكل تحديًا حقيقيًا أمام القراءة الورقية، وتُعيق أحيانًا الاستفادة من ذلك النور الذي يُبدّد الظلام ويُنير الطريق. القراءة الرقمية لا تُغني عن الورقية، ولا ينبغي أن تحلّ محلّها. فالأولى غالبًا ما تكون سطحية وعابرة، بينما الثانية تُرسّخ الفهم، وتُعزّز التفكير العميق، وتُنمي الاستقلالية المعرفية. مع ذلك، نحن لا ندعو إلى قطيعة بين النوعين، بل نؤمن أن الأولوية يجب أن تُمنح للقراءة الورقية، بوصفها جوهرًا لأي عملية تعليمية مستنيرة.
إن ترسيخ ثقافة القراءة الورقية في سنوات الطفولة يُسهم في بناء جيل مستقل، واعٍ، ومبدع. جيل يمتلك أدوات التمييز، والقدرة على مواجهة سيل المحتوى الرقمي السطحي والدعاية الموجّهة. جيل يربط بين المعرفة والعمل، ويُحوّل أفكاره إلى واقع. يتفاعل مع القصص والنصوص التي يقرأها، ويدخل في حوار بنّاء مع مضامينها وشخصياتها. ولتحقيق هذا الهدف، لا بد من تكاتف الجهود: الأسرة، والمدرسة، والمعلمون، ووسائل الإعلام، والمؤسسات المجتمعية. فلكلٍّ دوره في إعادة النور إلى العملية التربوية، عبر إعادة الاعتبار للقراءة الورقية.
وفي الختام، منذ أن نزل الوحي في غار حراء، كانت “اقرأ” مفتاحًا لعصر جديد، واحتوت بين حروفها شيفرات تفكّك أسرار الكون. واليوم، في زمن الشاشات المتوهجة والإيقاع المتسارع، نحن أحوج ما نكون إلى ذلك النور. لا على هيئة ومضات رقمية، بل عبر صفحات تُقلب، وكتب تُروى، وكلمات تُستوعب.
فلنعلّم أبناءنا أن النور الحقيقي لا يُشترى من متجر إلكتروني، بل يُكتسب من كتاب يُقرأ، وصفحة تُستوعب، ومعرفة تُترجم إلى سلوك. تأتي ذكرى المولد النبوي الشريف لتُذكّرنا بأن صلاح الأمة بدأ بكلمة “اقرأ”، وأن عودة هذا النور كفيلة بإحداث تحوّل حقيقي في واقعنا، إذا ما جعلنا من القراءة الورقية ركيزة في بناء عقول أبنائنا.
والله الموفق والمستعان.
د. علي خليل جبارين-أكاديمية القاسمي
من المهم التنويه أن موقع رِواق يحترم حقوق النشر ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المنشورات او الصور ومقاطع الفيديو أو غيره مما يصل الينا، وفي حال أنكم وجدتم أن لكم صورة او فيديو او منشورا تمتلكون حقوقا فيه، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة أو rwaqmedia@gmail.com حسب قانون 27 أ(סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים)