زمن الحصانة انتهى: AIPAC تحت المجهر والرأي العام الأمريكي يحاكم إسرائيل

منذ تأسيسها في خمسينيات القرن الماضي، اعتُبِرَت لجنة الشؤون العامة الأمريكية–الإسرائيلية (AIPAC) إحدى أقوى مراكز النفوذ السياسي في واشنطن، حيث لُقِّبَت بـ “اليد الخفية” التي ترسم ملامح الموقف الأمريكي من الشرق الأوسط، وتتحكم في مفردات الخطاب السياسي عن إسرائيل داخل الكونغرس والإعلام الأمريكي، ولكن ما كان لعقود رمزا للنفوذ المطلق بدأ يواجه اليوم أزمة شرعية غير مسبوقة.
فبعد الحرب على غزة (2023–2025)، لم تعد السردية التقليدية “إسرائيل الديمقراطية في وجه الإرهاب” تلقى القبول ذاته، وبدأت الأسئلة تُطرَح بصوت مرتفع داخل المجتمع الأمريكي: هل يمثل دعم إسرائيل مصلحة أمريكية حقيقية؟ أم أنه إرث سياسي تديره جماعات ضغط فقدت صلتها بالتحولات الجديدة في الرأي العام؟
التحول الأول: تصدع الإجماع الحزبي
طوال أكثر من نصف قرن، استطاعت AIPAC أن تحافظ على إجماع الحزبين الجمهوري والديمقراطي حول إسرائيل، إذ لم يكن دعمها موضوعا للنقاش؛ بل كان قاعدة من قواعد السياسة الأمريكية، تُدرَّس في كتب العلاقات الدولية، ولكن هذا الإجماع بدأ يتآكل في السنوات الأخيرة، خصوصا داخل الحزب الديمقراطي، فصعود التيار التقدمي في الحزب، المكوَّن من وجوه شابة مثل ألكساندريا أوكاسيو كورتيز، وإلهان عمر، ورشيدة طليب، وكوري بوش، أدخل خطابا جديدا يقوم على مساءلة أخلاقية للموقف الأمريكي من إسرائيل.

ولم يكتفِ هؤلاء النواب بانتقاد السياسات الإسرائيلية، ولكنهم تجرؤوا على تحدي AIPAC نفسها، بوصفها رمزا للنفوذ غير الخاضع للمساءلة.
هذا وقد أشار تقرير موقع GV Wire في أكتوبر 2025 بوضوح إلى هذا التحول: “الديمقراطيون يبتعدون عن AIPAC في انعكاس لتحول عميق داخل القاعدة الفكرية للحزب؛ لم يعد الدعم لإسرائيل واجبا وطنيا، بل مسألة رأي عام متغيرة”.
وفي المقابل، استغل الجمهوريون هذا الانقسام لتعزيز تحالفهم الوثيق مع إسرائيل، مما يجعل AIPAC، التي لطالما قدمت نفسها كجسر بين الحزبين، طرفا في معركة حزبية أكثر من كونها وسيطا سياسيا محايدا.
التحول الثاني: انقلاب الرأي العام الأمريكي
ربما كان التحول في الرأي العام الأمريكي هو الأكثر خطورة بالنسبة إلى AIPAC، فقد تراجعت الصورة الإيجابية لإسرائيل لدى الجمهور الأمريكي إلى أدنى مستوياتها منذ عقود، حيث أظهر استطلاع حديث لمركز Pew Research Center أن 53% من الأمريكيين يحملون نظرة سلبية تجاه إسرائيل، فيما أعرب أكثر من 60% من الشباب دون الثلاثين عن رغبتهم في أن تقلل واشنطن دعمها لتل أبيب.

ومن الملحوظ أن هذا التحول الجيلي لم يقتصر على السياسة وحدها، حيث امتد ليشمل تحولا ثقافيا وأخلاقيا، فجيل الشباب الأمريكي الذي يتابع الأخبار عبر “تيك توك” ووسائل التواصل الاجتماعي أكثر من التلفاز، شاهد بعينيه صور الدمار في غزة، ولم يعد يقبل التبريرات التقليدية عن “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.
وفي المقابل، يرى كثيرون في استمرار الدعم الأمريكي لإسرائيل تواطؤا أخلاقيا مع معاناة المدنيين الفلسطينيين.
بالنسبة إلى AIPAC، التي بنت خطابها على فكرة “القيم المشتركة بين أمريكا وإسرائيل”، فإن هذا التغير في المزاج العام يعني ضربا في العمق، فحين تتغير القيم بهذا الوضوح، يفقد الخطاب تأثيره مهما كان نفوذه المالي والسياسي.
التحول الثالث: تراجع سحر المال الانتخابي
لعل أحد أهم أسباب نفوذ AIPAC عبر التاريخ هو المال السياسي، فمنذ الثمانينيات، أنشأت المنظمة شبكة من لجان العمل السياسي (PACs) التي تضخ ملايين الدولارات لدعم أو معاقبة المرشحين في الانتخابات الأمريكية بحسب مواقفهم من إسرائيل، ولكن هذا النفوذ المالي يواجه اليوم تمردا انتخابيا متزايدا.
في انتخابات 2024، أنفقت AIPAC أكثر من 30 مليون دولار لدعم مرشحين موالين لإسرائيل، ولكنها واجهت هزائم رمزية أمام وجوه تقدمية رافضة لنفوذها مثل كوري بوش وجمال بومان، وقد كتبت مجلة The Progressive في سبتمبر 2025 إن: “الوعي الأخلاقي الجديد في المجتمع الأمريكي أضعف قدرة المال السياسي على حسم النتائج. فقد تغير الناخب، وتغير معه ميزان القوة”.
وقد جعلت هذه التحولات AIPAC تفقد إحدى أهم أدواتها التقليدية: القدرة على “معاقبة” من يعارضون إسرائيل سياسيا، وبالتالي، لم يعد الخوف من خسارة التمويل الانتخابي يردع النواب عن التعبير عن مواقفهم بحرية أكبر.
التحول الرابع: الحرب على غزة… الضربة الأخلاقية الأقسى
تاريخيا، كانت AIPAC بارعة في توظيف الحروب الإسرائيلية لتعزيز الدعم الأمريكي، من خلال خطاب “التحالف في وجه الإرهاب”، ولكن حرب غزة الأخيرة قلبت هذه المعادلة، حيث أثارت التغطيات الميدانية وصور الأطفال والدمار الواسع في القطاع تعاطفا شعبيا غير مسبوق مع الفلسطينيين داخل الولايات المتحدة، وبات من الصعب على كثير من السياسيين الدفاع علنا عن الحرب أو تبرير القصف المتواصل.

وقد لخص تقرير Foreign Policy Association في يونيو 2025 المشهد بقوله: “AIPAC لم تعد تملك السيطرة الأخلاقية على السردية الأمريكية كما كانت، حيث فتحت حرب غزة بابا واسعًا للنقاش حول حدود التحالف الأمريكي–الإسرائيلي”.
وعليه، تحولت الحرب التي كانت المنظمة تراها فرصة لتعزيز الدعم، إلى نقطة تحول أخلاقي تقوض شرعيتها الخطابية.
التحول الخامس: من الكونغرس إلى الشارع… ميلاد حركة مضادة
في السنوات الأخيرة، نشأت حركة سياسية واسعة تُعرف باسم “Reject AIPAC”، تضم ائتلافا من منظمات يسارية وتقدمية، تسعى إلى فضح النفوذ السياسي والمالي الذي تمارسه المنظمة في واشنطن.
وقد تحولت هذه الحركات إلى قوة ضغط مؤثرة على مستوى القواعد الحزبية والانتخابات التمهيدية، إذ تعهد العديد من النواب الديمقراطيين الجدد علنا بعدم قبول أي تمويل من AIPAC، معتبرين ذلك موقفا أخلاقيا مناهضا لتأثير المال الأجنبي في السياسة الأمريكية.

وقد تناول تقرير صحيفة The Guardian هذا التحول قائلا: “لم تعد حملة Reject AIPAC معزولة، بل تيار سياسي جديد يطالب بإعادة تعريف علاقة أمريكا بإسرائيل على أسس إنسانية وديمقراطية”؛ لتجد AIPAC نفسها لأول مرة أمام معارضة منظمة داخل المجتمع الأمريكي نفسه، وليست فقط بين منتقديها في الخارج.
التحول السادس: الإعلام الجديد… كسر احتكار الرواية
اعتمدت AIPAC لعقود على شبكة علاقات متينة مع مؤسسات الإعلام التقليدي في الولايات المتحدة، مما مكنها من التحكم في اللغة والمصطلحات المستخدمة لوصف الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، ولكن ظهور الإعلام الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي قلب هذه المعادلة رأسا على عقب.
وقد أشار تقرير Reuters Institute في يونيو 2025 إلى أن أكثر من 60% من الشباب الأمريكيين يستقون معلوماتهم السياسية من وسائل التواصل الاجتماعي، وليس من القنوات التلفزيونية الكبرى، ففقدت AIPAC بهذا التحول السيطرة على “السردية المركزية” للصراع، إذ لم يعد بمقدورها حصر النقاش في إطار “الأمن الإسرائيلي”، لأن المحتوى الرقمي المفتوح قدم روايات أخرى؛ روايات الفلسطينيين، والناشطين الميدانيين، والصحفيين المستقلين.

وأمام هذا الانفتاح، لم تعد حملاتها الإعلامية القديمة فعالة، بل أصبحت تُواجَه بنقد ساخر أحيانا، وبحملات مضادة تنتشر بسرعة البرق.
التحول السابع: تراجع التأثير داخل الكونغرس
رغم استمرار نفوذها في أروقة صنع القرار، فإنَّ AIPAC تواجه صعوبة متزايدة في تمرير مشاريع القوانين التي تخدم إسرائيل دون نقاش علني، ولكن الجيل الجديد من المشرعين أصبح يطالب الآن بربط المساعدات العسكرية لإسرائيل بمعايير حقوق الإنسان.
وقد أشار تقرير موقع Responsible Statecraft في أغسطس 2025 إلى أن “AIPAC لم تعد قادرة على ضمان الأغلبية المطلقة في الكونغرس كما في السابق، وأن مشاريعها أصبحت تُناقَش بشفافية أكبر من أي وقت مضى”.
ورغم أن نفوذها ما يزال قويا داخل اللجان الأمنية والعسكرية، فإن سلطة الخوف التي كانت تحيط بها تتآكل ببطء، وقد باتت المنظمة تدرك أن استراتيجيتها القديمة القائمة على الضغط المالي والرمزي تحتاج إلى إعادة تعريف.
التحول الثامن: أزمة هوية… من الدفاع عن إسرائيل إلى الدفاع عن الذات
في ظل التحولات الفكرية داخل المجتمع الأمريكي، تتزايد التساؤلات حول مشروعية جماعات الضغط الأجنبية في التأثير على قرارات دولة تقدم نفسها كحامية للديمقراطية والشفافية، وقد بدأت بعض الأصوات في الإعلام الأمريكي تصف AIPAC بأنها تمثل نموذجا قديما لعصر انتهى؛ عصر كانت فيه السياسة تصاغ خلف الأبواب المغلقة، أما اليوم، ومع انكشاف المعلومات وازدياد الوعي الشعبي، لم يعد ممكنا أن تمارس نفوذا غير مرئي دون مساءلة.
واشنطن الجديدة… وسياسة ما بعد AIPAC
ستدخل AIPAC انتخابات 2026 وهي في موقف دفاعي غير مسبوق، فهي تواجه جيلا جديدا من السياسيين والناخبين لا يرى في دعم إسرائيل واجبا وطنيا، بل قرارا يجب أن يخضع للمحاسبة الأخلاقية، وأكبر دليل على ذلك نجاح زهران ممداني في انتخابات الحزب الديمقراطي في نيويورك، رغم خلافه المستمر مع إسرائيل وسياستها، وإعلانه أنه سيعتقل نتنياهو إذا دخل نيويورك، فضلا عن أن جميع استطلاعات الرأي تؤهله ليفوز بمنصب عمدة نيويورك في الرابع من نوفمبر 2025.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، أصبح الإعلام أكثر انفتاحا، والجامعات أكثر جرأة، والمجتمع أكثر حساسية تجاه القضايا الإنسانية، وفي هذا المشهد الجديد، لا يبدو أن AIPAC – رغم تاريخها الطويل – قادرة على الحفاظ على هيمنتها السابقة دون أن تعيد تعريف نفسها من جديد.
ربما لم تنتهِ مرحلة نفوذها بعد، ولكنها بالتأكيد لم تعد كما كانت، حيث فقدت صفة “المحرم السياسي” وأصبحت، مثل غيرها من القوى، تخضع للنقد والمساءلة، وهي سمة قد تكون عنوان الحقبة الأمريكية القادمة.
من المهم التنويه أن موقع رِواق يحترم حقوق النشر ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المنشورات او الصور ومقاطع الفيديو أو غيره مما يصل الينا، وفي حال أنكم وجدتم أن لكم صورة او فيديو او منشورا تمتلكون حقوقا فيه، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة أو rwaqmedia@gmail.com حسب قانون 27 أ(סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים)



