لجنة المتابعة العليا: بين تطلعات الجماهير والحسابات الحزبية الضيقة

في ظل الخطر الوجودي الذي يتعرض له المجتمع العربي في الداخل على اصعدة مختلفة، بات الحديث عن أي موضوع آخر أمرا محفوفا بالشعور بالتقصير وتأنيب الضمير. ومع ذلك، فان الجدل الدائر عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي أروقة لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية حول المحاصصة وتوزيع الأصوات بين مكوناتها، وكأننا نعود إلى المربع الأول، يثير الكثير من الريبة تجاه القائمين عليها، ويطرح تساؤلات جدية حول مدى التزامهم باحترام المصالح الحقيقية و العليا لمجتمعهم.
في البداية، لا بد من توجيه التحية والتقدير لرؤساء اللجنة السابقين، سائلين الرحمة لمن رحل منهم، ودوام الصحة والعافية لمن خدم أو لا يزال يخدم من الاحياء، ومتمنين التوفيق للفائز أو الفائزة في الانتخابات القريبة القادمة. فخلافنا لم يكن يوما مع الأشخاص أو الأسماء، بل مع المواقف والقضايا المبدئية التي قد نختلف حولها ونتحاور بشأنها.
بنظرة نقدية مختلفة، نؤكد أن لجنة المتابعة العليا تعد الهيئة الوطنية والسياسية الأعلى تمثيلا للفلسطينيين داخل أراضي عام 1948 إذ تضم في صفوفها أعضاء الكنيست العرب، رؤساء السلطات المحلية، ممثلي الأحزاب والحركات السياسية، إلى جانب المؤسسات الأهلية والمجتمعية. تعود جذور اللجنة إلى عام 1974 مع تشكيل لجنة رؤساء السلطات المحلية العربية في أجواء تصاعد الوعي الوطني الذي تجلى في يوم الأرض عام 1976 والذي نتج عنه لاحقا تأسيس لجنة المتابعة العليا عام 1982. ومنذ تأسيسها تعاملت معها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة “كجسم احتجاجي معاد للدولة”، من دون منحها صفة مؤسساتية رسمية. مع ذلك، اكتسبت اللجنة شرعية جماهيرية واسعة، خصوصا خلال الأزمات الكبرى مثل مجزرة الحرم الإبراهيمي عام 1994 وهبة الأقصى عام 2000، حين اضطرت السلطات الإسرائيلية إلى التعامل معها كممثل فعلي للعرب في الداخل. هذا التناقض بين الشرعية الجماهيرية من جهة وغياب الاعتراف الرسمي من جهة أخرى حد من قدرتها على التأثير المباشر في صناعة القرار وأعاق تحولها الى مؤسسة تنفيذية فاعلة.
منذ تأسيسها، وضعت اللجنة نصب عينيها الأهداف العليا التالية: الدفاع عن الحقوق القومية والمدنية لعرب الداخل، مناهضة سياسات التمييز ومصادرة الأراضي وهدم البيوت، حماية المقدسات الإسلامية والمسيحية وصون الأوقاف، تعزيز وحدة المجتمع العربي وتنظيمه سياسيًا واجتماعيا، والحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية في ظل واقع المواطنة الإسرائيلية. كما أولت اللجنة اهتماما خاصا برفض التجنيد الإجباري، ودعم قضايا المهجرين، والتعاون مع جميع القوى المؤيدة للسلام العادل وحقوق الإنسان. سعت اللجنة كذلك إلى بناء قيادة جماعية تعبر عن الانتماء الوطني، قادرة على مواجهة محاولات الأسرلة والتهميش والتصدي لمساعي تفتيت التمثيل السياسي للعرب داخل إسرائيل وتحويلهم إلى جماعات محلية بلا قيادة موحدة. ومع مرور الوقت، أصبحت اللجنة المرجعية السياسية الأبرز للفلسطينيين في الداخل، وصوتهم الجماعي في القضايا الوطنية والمدنية.
رغم الأهداف السامية التي وضعتها اللجنة، واجهت جملة من التحديات التي حالت دون تحقيقها. من أبرز هذه التحديات تضارب المصالح الحزبية وضعف البنية التنظيمية، وغياب الاعتراف الرسمي من قبل الحكومات الإسرائيلية، إضافة إلى الهيمنة الحزبية التي أضعفت استقلالية قرارات اللجنة وكرست الانقسامات بين مكوناتها. كما كشفت هشاشة الممارسة الديمقراطية داخل أروقتها وضعف الشفافية في أدائها عن قصور بنيوي عميق.
ومن مظاهر هذا القصور أيضا تعيين الأعضاء بدلا من انتخابهم مباشرة، وتهميش دور الشباب والجيل القيادي الجديد، وضعف تمثيل شرائح مجتمعية واسعة. يضاف إلى ذلك الضغوط الإسرائيلية المستمرة التي سعت إلى تصوير اللجنة كجسم “معاد للدولة”، ما قيد أنشطتها وعرض قياداتها للملاحقة. وقد أدت هذه العوامل مجتمعة إلى تراجع الثقة الشعبية باللجنة، وتحويلها تدريجيا إلى هيكل رمزي أكثر منه مؤسسة فاعلة، ولا سيما في ظل تفاقم العنف والجريمة داخل المجتمع العربي.
رغم التحديات، تبقى لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية احدى أبرز الإنجازات السياسية للفلسطينيين في الداخل، إذ تجسد وحدة الهوية الوطنية وإرادة البقاء في مواجهة التمييز والتهميش. غير أن الحفاظ على هذا الدور يتطلب إصلاحا جذريا في هيكل اللجنة ودستورها وآليات عملها، بما في ذلك طرق انتخاب أعضائها، كي تستعيد حيويتها وفاعليتها. ويقتضي ذلك اعتماد آليات أكثر شفافية في اختيار الأعضاء، وتوسيع قاعدة التمثيل لتشمل مختلف القطاعات المجتمعية، مراجعة مهنية شفافة لدستور اللجنة والالتزام ببنوده بعد اقراره من قبل كل مكونات اللجنة، ترسيخ مبادئ المساءلة والمحاسبة والشفافية في العمل. كما يتطلب الامر تطوير جهاز إداري يعمل وفق معايير مهنية واضحة وشفافة، تأمين مصادر تمويل مستقرة تغطي تكاليف نشاطاتها، بالإضافة الى صياغة استراتيجية متكاملة تنبثق من رؤية واضحة، توحّد طاقة الشارع، وقوة القانون، وحنكة السياسة، لإحداث التغيير المنشود وتحقيق العدالة المرجوّة في قضايا المجتمع العربي داخل إسرائيل.
ختاما، يمكن القول ان ما يجري داخل أروقة لجنة المتابعة العليا هذه الأيام يكشف عن فجوة عميقة بين الطموح الجماهيري نحو وحدة حقيقية وتأثير سياسي فعال من جهة، وبين واقع سياسي مثقل بالانقسامات، منغمس بالحسابات الضيقة ومكبل بالقيود الرسمية من جهة اخرى. ويظل مستقبل اللجنة مرهونا بقدرتها على التحول من هيكل رمزي محدود الصلاحيات إلى مؤسسة حوارية فاعلة تعمل وفق معايير شفافة وتسعى لاستعادة ثقة المجتمع العربي وتحقيق أهدافه العليا، وعلى رأسها بناء مجتمع امن خال من العنف والمساواة في الحقوق وكرامة العيش وصون الهوية الوطنية لأبنائه. ان بناء مؤسسة قائمة على أسس متينة وشفافة هو السبيل الوحيد لتحقيق هذه الأهداف، غير أن ذلك يستلزم تغليب المصلحة العامة للمجتمع العربي على أي اعتبارات او حسابات حزبية أو فئوية ضيقة.
والله الموفق والمستعان
من المهم التنويه أن موقع رِواق يحترم حقوق النشر ويبذل قصارى جهده لتحديد أصحاب الحقوق في المنشورات او الصور ومقاطع الفيديو أو غيره مما يصل الينا، وفي حال أنكم وجدتم أن لكم صورة او فيديو او منشورا تمتلكون حقوقا فيه، فيرجى الاتصال بنا للتوقف عن استخدامها عبر الخاص في هذه الصفحة أو rwaqmedia@gmail.com حسب قانون 27 أ(סעיף 27א לחוק זכויות היוצרים)



